الخميس، 27 أكتوبر 2016

   

القاضي و القضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحنُ نعيش في مُجتمعات لا تكاد تتسّع لقُلوب البشر، فهُناك الكثيرون منْ الذين لا يطيقون العيْش دون المساس بحُريات الآخرين، ولا يستطيعون أنْ يتعاملوا أو يُعاملوا النّاس إلا بأسوأ الأخلاق وأبشع المُعاملة، وهؤلاء ليس لهم قائد يقُودُهم لفعل تلك الأفعال البشعة منْ جرائم وسرقات وهتك أعراض إلا نفسهم التي تُسّول لهم السُوء والخبائث، وهناك نوع آخر لا يقلْ أهميّة في الدّراسة عن هذا النّوع، وهو نوع ضعيف مكسُور الجناح، لا يستطيع الدّفاع عن نفسه، لايقوى على الحديث والكلام جهاراً، ومنهُم منْ لا يقوى على النّظر في وجوه الآخرين خوفاً منْ نظرات قد تُشعرهم بالخوف، فهل منْ حُلول لهاتين المُشكلتين ؟ ، فالنّاس لا تقوى على كل هذا، هذه الفئة تعيش في مُجتمعات لا تكاد تتسّع لقُلوب البشر، ويرى البعض أنّ منْ واجب فئة ثالثة أنْ تعمل على إصْلاح الأولى وأنْ تبحث في مُشكلة الثّانية هذه الفئة  الثالثة هي الجهاز القضائي الذي يفصل في المطالبات المنازعات القضائية التي تنشا بين الفئتين الاولى والثانية لذا فالغاية من القضاء إقامة العدل ، ولاشك ان القضاء مسئولية شاقة ، أساسها البحث والتنقيب عن الحق لدمغ الباطل ، والفصل في دماء وأموال وأعراض الناس ، لذلك يرتقي القاضي منصة العدالة ويحتل مكانة شريفه في مجتمعه ، باعتباره قدوة حسنة وانه من الواجب على المجتمع احترام القضاء وأحكامه ، ليسود العدل الذي هو أساس الملك .
والقاضي بحكم طبيعة عمله لا يمكن ان يرضي كل الخصوم ، لان الخصم الذي يخسر دعواه لن يكون راضيا على القاضي ، لذلك كفل القانون للخصم حق الطعن بالحكم وكذلك حق التظلم من قرارات النيابة أمام القضاء ، أما غير ذلك فان القضاء يطهر نفسه بنفسه .
انطلاقا من ذلك نقول  ( لا تقاضي القاضي حتى لا تقضي على القضاء ).
والحقيقة ان العدالة تتولد في أعماق النفس ثم تكمن في ضمير القاضي ، والقاضي العادل المؤمن بالله يستطيع إظهارها مها كانت النصوص والوقائع مبهمة أو غامضة .
فالقضاء ملاذ المظلومين ومنتهى الخائفين وزورق نجاة الضعفاء فإذا فسد قضاء أمة وأصبح (حاميها حراميها) فلمن يشتكى المظلوم وبمن يلوذ ؟!! وكيف إذا آوى المظلوم إلي ماَحِسبَهُ رْكناً شديدا فوجده سِّكينا مطعونا في ظهره وشوكة في حلقه ؟!! فمرارة خيبة الأمل أشد إيلاما من مرارة الظلم .والقضاء يرتكز على الأخلاق الحميدة والضمير الحي للقاضي ، وهو ما يسمى بـ(روح القانون) بالإضافة إلى ان هناك أسس وقواعد مكتوبة محددة سلفا تطبق على كافة الخصوم اذ لابد من الاخذ بها بنظر الاعتبار باعتبارها من السمات الواجب ان يتسم بها القاضي :
·        ألا يكون القاضي ميال لأي خصم اذ يجب ان يكون عادلا في التعامل معهم وان يساوي فيما بينهم .
·        ألا يكون للقاضي مصلحة في الدعوى التي ينظرها حتى لا يكون هو الخصم والحكم .
·        ألا يكون للقاضي رأي مسبق في الدعوى التي ينظرها .
·        ألا يقضي القاضي بعلمه الشخصي حتى لا يجمع بين صفتي الحكم والشاهد .
·        ألا يخل القاضي بحق الدفاع والمواجهة بين الخصوم . 
فالقضاء هو الضمير الذي تسير على هداه البشرية ويجنبها المزالق والحفر التي قد تهلكها وتطيح بها . والدول تطمح ان يكون لها قصاء نزيها عادلا يعكس صورة البلد الحضارية ويعطي انطباعا جيدا وصورة عن عدالة البلد , تجعلها اكثر احتراما وقبولا بين بلدان العالم .
إن القضاء في المجتمعات المتحضرة ليس وظيفة لكل من هب ودب بل هو المركز الأعلى مقاماً ومكانة وشرفاً فيها، ولا يدانيه أي مركز آخر أو وظيفة أخرى وإن كانا أفضل دخلا ً ومنافع . وإن نفراً من الناس المؤمنين والملتزمين بالعدالة والإنصاف وتحقيق ذواتهم هم الذين يفضلون العمل فيه. إن شعارهم : "دع العدالة  تتحقق حتى وإن سقطت من السماء على الأرض" بمعنى حتى لو انها ألحقت أكبر الضرر بالصداقة والحكومة والعشيرة... فالقاضي العادل الصارم نحوها أعمى .
وقد قال صلى الله عليه واله وسلم: "القضاة ثلاثة : اثنان في النار، وواحد في الجنة، فاللذان في النار أحدهما من يقضي ولم يعلم، والآخر من يعلم ويقضي بغير الحق. وأما الذي في الجنة فهو الذي يعلم ويقضي بالحق".
فالقاضي العادل لا يموت لأن ذكراه تستمر حاضرة مع الأجيال. وإن ذكرى عدالة الامام علي ابن ابي طالب ع . أقوى من ذكراه بالفتوحات.
وتعبر الدولة عن إيمانها بسمو القضاء بنظام خدمة حصين وتعليم وتدريب للقضاة بجعل سلطتهم فوق سلطة السلطتين: التنفيذية والتشريعية فلا تجرؤ أي منهما على الضغط عليهم أو الإيحاء إليهم.
     وأخيراً اعلم أنه إذا فسد القضاء في مجتمع فسد الماء والغذاء والهواء والدواء فيه. لذا اصبح القاضي  (ظل الله في الارض) اذ كانت وظيفة القضاء هي وظيفة الانبياء لما لهذه المهمة من علو في الشان في المجتمع لما يتعلق شانها بالحقوق التي هي مناط الامن والامان في البلاد منذ القدم وعلى مر العصور سيما العصر الاسلامي والتاريخ حافل بالوقائع على اثر القضاء في استتاب الامن في المجتمع واستقراره وقد روي أنه صلى الله عليه واله وسلم لما بعث عليا ع  إلى اليمن قاضيا قال يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : "اللهم اهده وثبت لسانه قال فو  الذي فلق الحبة ما شككت به في قضاء بين اثنين" والقاضي غير الكفء هو شر بلية يمكن ان يصاب بها المجتمع ، ذلك لانه ان كان في وسعك ان تمتنع عن التعامل مع أي تاجر لا يروق لك فان هذا ليس هو الشأن مع القاضي .. فانك تقف أمامه مضطرا يتصرف في حاضرك ومستقبلك ولا مندوحة لك ان تبسط حججك أمامه .. وما أسوا المصير الذي ينتظرك على يديه اذا كانت تنقصه الكفاية في الخلق أو العلم أو في كلاهما .. ومهما يكن حسن النية فان ذلك لا يعوضك شيئا يكون قد أصابك من ضرر على يديه !
ويقول الأستاذ بيرو كالمندري (نقيب محامي روما ) :
( انني أحب القاضي الذي يحدق النظر في عيني حين مرافعتي ، فهو يشرفني بما يبديه من محاولة التغلغل إلى أعماق نفسي بحثا عن الحقيقة في ما وراء كلماتي وقد يكون التجاء القاضي الى مثل هذه الطريقة ليس إلا محاولة بارعة منه لتعرية نفسي والبحث عما فيها من إيمان صادق بما أقول ، ولكن اتجاهه هذا على أية حال يزيدني اطمئنانا الى صدق رغبته في كشف الحقيقة ، كما أحب القاضي الذي يقاطعني أثناء المرافعة افليست وظيفتي هي مساعدته على تحري وجه الحق ؟ )...
وقد نصت تشريعات وضعية عديدة لاحقا على معالجة جملة من السلوك الذي يودي بالقاضي الى مزالق تودي في النهاية الى معايب تقدح في حكمه وعدله بين افراد المجتمع وبالتالي انهيار المجتمع اخلاقا وخلقا وانعداما للامن .
ومن هذه التشريعات هو القانون الاجرائي العراقي (قانون المرافعات 83/1969) في الباب الثامن منه من المواد (91) لغاية المادة (97) .
اذ كانت تلك المواد علاجا ناجعا ونافعا وضعه المشرع العراقي لما يصدر احيانا من القاضي من سلوك يودي بحكمه الواجب عدله الى مهاوي الظلم او الخطا المؤدي الى الظلم باعتباره انسانا قد يشط به الميل والهوى احيانا الى الاخفاق في الحكم قصدا او سهوا , اذ لايجوز للقاضي (وجوبا)  نظر الدعوى اذا كان زوجا اوصهرا قريبا لاحد الخصوم الى الدرجة الرابعة او كان له او لزوجه او لاحد اولاده او احد ابويه خصومة قائمة مع احد الطرفين او مع زوجه او احد اولاده او احد ابويه او اذا كان وكيلا لاحد الخصوم او وصيا عليه او قيما او وارثا لاظاهرا له او كانت له صلة قرابة او مصاهرة للدرجة الرابعة بوكيل احد الخصوم او الوصي او القيم عليه او باحد اعضاء مجلس ادارة الشركة التي هي طرف في الدعوى او احد مديريها او اذا كان له او لزوجه او لاصوله او لازواجهم او لفروعه او ازواجهم او لمن يكون هو وكيلا عنه او وصيا او قيما عليه مصلحة في الدعوى القائمة  .
كما لايجوز له نظر الدعوى اذا كان قد افتى او ترافع عن احد الطرفين في الدعوى او كان له قد سبق له نظرها قاضيا او خبيرا او محكما او كان قد ادى شهادة فيها (م / 91 مرافعات مدنية ) .
ولم يترك القانون حل ما اذا خالف القاضي وانتهك القانون في ذلك اذ اجابت المادة (92) من ذات القانون صراحة على ذلك :
اذا نظر القاضي الدعوى في الاحوال المذكورة في المادة السابقة (91 / مرافعات ) واتخذ أية اجراءات فيها او اصدر حكمه بها يفسخ ذلك الحكم او ينقض وتبطل الاجراءات المتخذة فيها .
وقد تطرق القانون في المادة (93) من ذات القانون الى حالات رد القاضي ومنعه من النظر في الدعوى المعروضة امامه فقد يكون احد الطرفين مستخدما عنده او كان هو قد اعتاد مؤاكلة احد الطرفين او مساكنته او كان قد تلقى منه هدية قبيل اقامة الدعوى او بعدها , او اذا كان بينه وبين احد الطرفين عداوة او صداقة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل او اذا كان قد ابدى رايا فيها قبل الاوان .
ويجوز للقاضي (جوازا) اذا استشعر الحرج ان يتنحى من نظر الدعوى لاي سبب يراه موجبا للتنحي بعد ان يعرض امر تنحيه على رئيس المحكمة للنظر في اقراره التنحي حسب ما قررته المادة (93) مرافعات مدنية , متبعا اجراءات معينه نص عليها القانون في امر التنحي . 
ومن نافلة القول ومما تقدم يتضح ان القاضي لايمكنه الانحياز لاحد طرفي الشكوى الجزائية او الدعوى المدنية دون رقيب اذ يبقى حق الطرف الاخر قائما في منعه من ذلك وفقا للاصول والصيغ القانونية السليمة .
                                                                                                           
                                                                                             القاضي 
                                                                                            رياض الامين 
                                                                                                 تشرين الاول / 2016      
                                        
                                         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق